وُلِدَتْ مِنْ رَحِمِ اَلْمُعَانَاةِ تحكي قصتنا اليوم عن قضية اجتماعية توجد بشكل كبير في جميع المجتمعات ألا وهي ظاهرة الطلاق وعذاب الأطفال ومرارة حياتهم بعد فراق الأزواج فقد يعيش الأبناء مع أحد الأبويين أو يشردوا في الشوارع تابع القصة
![]() |
وُلِدَتْ مِنْ رَحِمِ اَلْمُعَانَاةِ قصة قصيرة |
القصة
1) براءة الطفولة
وُلِدَتْ
آمنة من أم من المنطقة الجنوبية وأب من المنطقة الوسطى، كان الأب تاجراً معروفاً يعيش حياة في ذلك الزمان تُعد
مرفهة
وكانت
تجارته تحتم عليه السفر من مكان لآخر داخل وخارج بلاده مما يستدعي غيابه أشهر
عديدة وقد تصل لسنة كاملة نتيجة بدائية المواصلات أنذاك وعندما بلغت آمنة سن
الرابعة من العمر فکر والدها باصطحابها وأمها إلى بلده حيت تجارته ولكن الام رفضت
الذهاب معه فكيف تترك أهلها ومسقط رأسها ومن شدة رفضها خيرَّها الأب إما الذهاب
معه أو الانفصال واختارت الانفصال
(استطاع القاضي إقناع الفتاة باختيار أبيها بمكافئتها بتمرة لو اختارته وقد كان)
ونظراً
لقلة حيلة المرأة في ذلك الزمان وقسوة المجتمع وجبروت القضاة، وتمكن الأب من أخذ ابنته
من امها انتزاعاً لا يقبل التفاوض، ورجل بها إلى بلاده تطوي رحلته جبالاً وهضابا وسهولاً..
وعرج في طريقه على بلد أخرى قريبة من منطقة أم آمنة وفعل تماما مثل ما فعل مع أم آمنة،
والزوجة الأخرى كذلك رفضت الرحيل معه وأخذ منها ابنته الثانية ورحل بهما متوجها
لبلد تجارته ولقلة وبدائية المواصلات وطرق التواصل لم يعرف أحد أبدا أي معلومات
عنهم سوى أن إحدى بناته توفيت في الطريق إثر إصابة بمرض الجدري
في تلك الأثناء وصل هذا الخبر المفجع إلى أم آمنة المكلومة بوفاة ابنتها كما وصلها من اخبار فطوت حزنها في قلبها واحتسبتها عند الله ومضت بها الحياة. وبعد مدة من الزمن تزوجت أم آمنة من رجل آخر من نفس بلدتها ورزقت منه بولدين.
2) طفولة حزينة: -
وعادت
آمنة مع أبيها لبلدة تجارته وتربت في كنف زوجة أبيها.. ولم تكن زوجة أبيها الصورة
النمطية لزوجات الأب بل كانت امرأة حنون، لم تجرح آمنة بكلمة قط، ولكن كان هناك دائما
لدي آمنة إحساس بالفقد لشي ما لا تعرف ما هو وزاد من الطين بله ذهاب أبيها المستمر
لأشهر.. تربت آمنة كبنات جيلها من خدمة في البيت.. ولكن لنشاطها وذكائها كانت
موكلة بأمور تفوق سنها في الخدمة برغم وجود أخوتها من أبيها اللاتي كن يحببنها
كثيرا ولكن هذا الحب لم ينسي آمنة غصة الفقد التي لا تعلم ما هو؟!!
في
يوم من الايام وعندما بلغت آمنة سن الثامنة ذهب أبيها كعادته في سفراته التجارية..
وتذكر حينذاك أن ثروة أبيها كانت حقائب من القماش مليئة بريالات من الذهب والفضة..
وسافر الأب لبلاد الشام قاصدا التجارة وبعد عدة أشهر.. وقيل ستة أشهر بلع العائلة بأن
الأب قد توفي هناك.
رحل
الأب ازاد احساس آمنة بالفقد.. بل أصبح فقدها مضاعفا لأنها كانت مقربه من أبيها..
رحل الأب بثروته فلم يعد منه شيء لا جثمانه ولا ثروته.. عانت العائلة فقرا شديدا وكابدت
في عناء الدنيا بالرغم من أن أخ زوجة الأب كان وزيرا معروفا وله سمعته وثروته..
ولكن زوجة الاب رفضت أن تكون عالة على غيرها فانكفتت على تربيتهم جميعا والأنفاق
عليهم.
ونظرا
لضيق ذات اليد التي اجتاحت العائلة ارتئي الأخ الأكبر لآمنة وهو ابن زوجة أخري غير
زوجة أبيها، قرر هذا الشاب الذي كان يعمل في الجيش علي أخذ آمنة لديه بما أنها ليس
لها أم أو أب.. ولكن آمنة ظلمت بهذا الأخذ.. فنكلت بها زوجة أخيها، وكانت ما تفتأ
أن تحرض أخيها عليها فيضربها ضربا مبرحا بلا أسباب سوي وشاية زوجة الأخ بها..
زاد
ألم الفقد لدي آمنة أضعافا مضاعفة.. وأصبحت تسأل المارة من كل ألوان البشر نفس
السؤال.. "هل لكم ابنه تائهة اسمها آمنة.. هي أنا" ودائما تجد نفس
الإجابة.. لا
كانت
كلمة لا تهوي بآمنة في هاوية الفقد والحزن والضياع.. ولكنها أمام ذوبها كانت تدعي
القوة والسعادة.. كانت فتاه لبقه، حريصة، سريعة البديهة ومعطاءة. وهنا وبعد معاناة
آمنة قامت زوجة أبيها باستردادها لتعيش في كنفها وكنف أختيها الأخرى في حياه يمكن
أن تسميها حياه أفضل لآمنة بعيدا عن الام الضرب وجبروت زوجة الأخ
3) نافذة السعادة: -
ومرت
الأيام وكبرت آمنة.. وكان عمرها أنذاك ثلاثة عشر عاما.. فتهافت الخطاب علي بابها..
وكان منهم شاب عمره في منتصف العقد الثالث..
شاب طموح، مكافح، خلوق يرعي والديه وأخواته بني نفسه بنفسه جل همه الكسب الحلال
وبر والديه هو ابن أخت زوجت ابيها الحنونة.
من
الطبيعي في ذلك الوقت لم يكن للفناه حق في القبول او الرفض ولا حتى حق في طرح
الأمر عليها.. تتذكر آمنة تلك الأيام
فتحكي "كنت ألبس الملابس الجديدة المعدة للزواج على أنها لأختي التي
تكبروني.. لم أكون أعلم أنها لي.. ولا بأنني سأتزوج.."
وكان
اليوم الموعود. إذا بابنة الثلاثة عشر ربيعا عروسا لذلك الشاب..
كان
مع كل صفاته النبيلة وسيما جدا، سمرته بسمار سهول نجد وشعره بسواد الليل الحالك..
وعيناه تفيض منها مشاعر الحنان، الأمان، الرحمة، الحب.
تزوجت
آمنة من فتي أحلامها صالح.. ولعلني ذكرت كلمة "فتي أحلامها" مجازا
باعتبار ما سيكون.. وعاشت معه سنوات جميله أغدقها حبا وحنانا وكرما وودا.
رجل
بكل ما تحمله هذه الكلمة من معني.. كان إذا فرح أغدق عليها حبه وكساها فرحا وإذا
غضب نهر نفسه عن جرحها.. وكما هي الحياة لا تصفو دائما فكانت أم صالح تنفص علي آمنة
حياتها وتقسو عليها.. ولكن لان آمنة كانت فتاه لبقة وحريصة على بيتها وزوجها الذي
عوضها عن سنوات الشقاء.. كانت تتجاوز وصالح يراقب من بعيد.. ويكتفي بهمسات في أذن آمنة
زوجته قائلا
"هي
أمي لها حق البر والطاعة.. وأنت زوجتي لك حق الرضا.. ان صبرتي سيعوضك الله
خيرا"
وصبرت
آمنة.. ورزقت بأبنائها الأربعة.. كفل صالح زوجته وأبنائه خير كفالة.. وعاشت في رغد
من العيش وتوفره لها كل سبل الراحة ووضع لها من يخدمها.. فأصبحت حديث مجتمعها
وأصبحت في عز يحسدها كثير من بنات جيلها.. كان صالح رجلا رحوما بوالديه بارا بهما
وأبا حنونا لأبنائه وزوجا معطاء لزوجته وسندا لها وقريبا كريما لأهله ومعارفه
في
يوما من الأيام.. حضر أخو آمنة الأكبر.. تذكرونه.. من كان قاسيا معها.. تبدل حاله
ورجع لرشده.. حضر لدي صالح قائلا بالحرف الواحد "لقد أوصاني أبي قبل مماته
بأن أحمل آمنة لتري أمها في بلدها في الجنوب".. وافق صالح ورحب بذلك.. وفرحت آمنة
بأن لها أما تنتظرها.. ولكن مازالت القسوة تطارد آمنة.
رفضت
أم صالح رفضا تاما بترك آمنة تذهب للقاء أمها قائلة: "لقد عشت أول عمرك بلا
أم فأكملي العمر الباقي بدونها".. هنا بكت آمنة وبكي معها زوجها صالح وأصبح
يحاول اقناع أمه بالسماح لزوجته بالرحيل لأمها.. ورحلت آمنة مع أخيها حاملة معها
ابنتاها وتاركة وراءها ابنيها.
4) لقاء بعد فراق:
في
تلك الأيام لم تكن وسائل الموصلات سهله.. فحتي تصل آمنة لبلد أمها تعين عليها ركوب
السيارة حتى حدود الجنوب.. ثم ركوب الجمال لتتخطي كل الجبال..
في
تلك الرحلة.. كانت مشاعر آمنة متأججة.. لا تعلم أتفرح للقاء أمها أم تحزن لتركها
أبنائها؟!، هل ستعرفها أمها؟! هل ما زالت أمها تحبها؟! بل هل هي نفسها تحب أمها
كما هي فطرة الأنسان؟! أم أن البعد وألم الفقد تسئ القلوب؟!
كانت
تتساءل كيف سأقابلها؟! هل سأحتضنها؟! بل هل ستحتضنني هي؟! هل لي أن أقبل رأسها..
يداها.. قدماها...؟! هل سأبكي أم سأفرح؟! والخوف.. جل الخوف..أن تكون أمها
متوفيه.. وكل ما سعت اليه كذبة..يا الله إحساس مرير كان يعصف بآمنة ابنة الحادية والعشرون.. مشاعرها تفور بين فرح اللقاء.
خوف الجفاء.. غدر الظروف.
في
الناحية الأخرى حيث الجبال الشاهقة.. هناك كانت أم آمنة تهرول بين جبال تهامة..
فرحة بنبأ قدوم ابنتها.. ويعصف بها الشك.. سؤال لم يترك عقلها ولم يترك قلبها
عصفا.. يقولون ماتت! يقولون ماتت!! لم تمت.. أهي قادمة؟! وكانت كل ذلك الطريق في
حال يرثي لها.. اما تصرخ بصوتها مناديه.. آمنة.. آمنة.. أو تسقط على الأرض فاقدة
الوعي.. مشهد أبكي كل من ذهب معها.. وكان فرحا لها بعودة الابنة المفقودة.. أمنة.
وكان اللقاء.. أخذت أم آمنة ابنتها في حضنها.. بل أحضانها.. كانت تتخيل أن لديها ألف حضن وحضن ليملي تلك الفراغات في صدرها كانت تقبل وجنتيها.. قلبها.. عيناها.. يداها.. رأسها.. متمتمه الحمدلله.. آمنة.. الحمدلله .. آمنة.. وسط كل تلك المشاعر كانت آمنة تردد كلمة واحدة.. قائلة: "لدي أم.. ليس الناس فقط.. بل أنا كذلك لدي أم.."
5) عودة الى الديار:
قضت
آمنة مع أمها وابنتاها أربعة أيام.. كل من في بلدة الأم أتي مهنئا.. أقاموا
الولائم.. رقصوا.. غنوا.. ترنحوا بأشعار فقط نظمت لآمنة وأمها..
ولكن
آمنة وفي زحمة مشاعر الفرح بلقاء أمها.. الا أنها كانت تنظر للجبال الشاهقة من
حولها.. وتبكي قائلة لأمها: "كل تلك الجبال التي حجبتك عني.. هي الأن تحجبني
عن أبنائي".. وكانت أمك تضحك وتقول: «يا آمنة صبرت سبعة عشر عاما.. ولم تصبري
أربعة أيام".
ورجعت
آمنة مع ابنتاها وأخاها إلى بلادهم.. كانت تملؤها نشوة الفرح بلقاء أمها.. وما أن
وصلت لمدينتها.. إذا بصالح زوجها يستقبلها بالفرح والترحاب.. ومضت الأيام والأسابيع..
كلها سعادة تجري في عروق آمنة كجريان دمها.
وبعد
مدة من الزمن قرر صالح أن يدعو أم آمنة واخوتها الي مدينته وأقنعهم بالسكن في نفس
المدينة.. واشتري لهم بيتا وأثثه بكل شيء ووظف اخوانها.. كل ذلك ليضمن لزوجته
السعادة..
ولكن..
لم يعجب أخوان آمنة السكن في نفس المدينة وفكروا بالانتقال للمنطقة الوسطي حيث
يسكن هناك كثيرا من عائلتهم.. فرحب صالح بذلك واشتري لهم ارضا وبناها لهم كان
مسكنا من طابقين لكل واحد منهم طابق متكامل بأثاثه. ومبلغا في البنك ليشقوا طريقهم
الجديد في الحياة..
أحبت أم آمنة زوج ابنتها صالح.. وهو أيضا أحبها.. ولم تتوقف الزيارات بينهم.. وبعد مرور خمسة وعشرون عاما.. توفيت أم آمنة.. ولم يفقدها أبناؤها فقط.. بل افتقدها صالح أيضا..
6) رحيل الحبيب
عاشت
آمنة مع زوجها وأبنائها الستة في رغد من العيش.. لم يبخل عليهم بشي قط.. حرص على تعليم أبنائه وتربيتهم زوجهم جنبها وعاد
صالح وآمنة كأجمل حبيبين.. كل منهما يراعي
مشاعر الأخر.. ومرت السنين ورزقوا بالأحفاد ذكورا واناثا
وزوج
صالح أحفاده.. وتمتع بوجود أبنائهم الذين كانوا هم رحلة حياته الجديدة.. كان
الأحفاد وأبنائهم إذا طلبوا المستحيل لا يطلبونه الا من حبهم صالح..
وفي
غفلة من الزمن.. يمرض صالح.. ويدخل العناية المركزة وفي نفس الوسيلة ترحل روحه الي
بارئها بسلام.. وسط ذهول الجميع بكته العيون والقلوب.. بكاه كل من بكاه كل من عرفه
وكل من سمع به.. بكاه حتى الشجر الذي كان يعتني به.. وبكته عكازه.. وثيابه.. بكته
الجدران والشوارع.. بكاه الأطباء.. بكته الأرامل والشيوخ.. كان وجهه مبتسما..
ورائحته طيبه.. كان اصبعه في حال التشهد.. كان كالنائم الذي يرقد بسلام..
وحضر
جنازته أمة من الناس.. کانت جنازته مهيبة..
ركفيت الناس خلف جنازته.. وهو ليس بشخصية رسمية..
كل ما يميز صالح أخلاقه وحبه وعطاؤه للجميع.. بساطته.. عفوه عن من أخطا بحقه.. بره بوالديه.. ورحمته
بزوجته وأبنائه.
اما
آمنة.. وعندما تلقت خبر وفاة زوجها صالح لم يسعها قول شيء سوى: " لا حول ولا قوة
إلا بالله".. وقامت لربها تصلي ولمصحفها تتلوه
لم
تذرف آمنة دمعة واحدة.. عند تلقيها الخبر.. بل صلت وقراءت القراّن.. وسبحت واستغفرت..
وعند قدوم جثمانه طلبت بان تجلس معه وحيدة.. قائلة: " اتركوني معه أريد أن
أكلمه ".. قالت له: «اذهب إلى رحمة ومغفرة وعفو من الله.. اذهب فاني عليك راضية..
ومنك راضية" حينها فقط نزلت دموعها.. ووضعت يداها على وجنتيه وقبلت رأسه، وقالت:
((أبناؤك بعدك ليسوا يتامى.. لهم حياتهم القادمة.. أنا اليتيمة فأنت كنت لي الأب والأم
والاخ والاخت والصديق.. کل هؤلاء رحلوا برحيلك.. جمعني الله واياك في مستقر رحمته..
في جنة الفردوس لأعلى))
وخرجت
آمنة بعدما ودعت عمرها الجميل.. خرجت وهي تلك المرأة القوية التي جمعت أبنائها
قائلة: " ترك لكم ابوكم من خير الدنيا ما رزقه الله من مال وعقار، خصصوا له
جزءا منه صدقة جارية، افعلوا كما كان يفعل، کنوا يداً واحدة هكذا كان يحب أبوكم"
ومرت
السنين ولا يمر يوم الا وتذكر آمنة صالح في كل موقف ولم تجد من يعوضها غيابه سوی
صبرها على الفراق وإیمانها بأن الله سيجمعها به في الجنة.